وكالة أنباء الحوزة - انقسم المؤرِّخون في تعليلهم لسبب معركة مؤتة إلى قسمين:
الأول: يقول إن النبي (ص) أرسل الحارث بن عمير الأزدي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فلما وصل الحارث إلى مؤتة قبض عليه شرحبيل بن عمرو الغساني عامل هرقل فقتله.
وأمّا القسم الثاني: فيقول إن النبي (ص) أرسل خمسة عشر رجلاً إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام فقتلهم الروم ولم ينجُ منهم إلا رئيسهم.
وكلتا الروايتين تؤديان إلى نتيجة واحدة وهي قتل رسُل النبي (ص) واعتداء الروم على الإسلام وإهانة كرامة المسلمين، فلما وصل الخبر إلى النبي (ص) تأثر كثيراً من هذا الحادث الفظيع الذي يدل على العداء الصريح للإسلام والاستخفاف به بهذه الوقاحة، فلم يعرف قبلها أن يُقتل الرسول في أية أمة من الأمم فهو مؤدٍ لرسالة فقط.
صمم النبي (ص) على غزو الروم في عقر دارهم فأعلن الجهاد وندب المسلمين للذبِّ عن دينهم والثأر لقتلاهم واسترداد كرامتهم، فلبّى المسلمون النداء وعسكروا بالجرف فكانوا ثلاثة آلاف مقاتل، وبالمقابل كان الجيش الرومي يبلغ تعداده مائة ألف مقاتل وهو مدجّج بمعدات حربية تفوق معدات جيش المسلمين.
خرج النبي (ص) يودع الجيش وقد أوصاهم بقوله: أغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً، ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً، ولا تهدمن بناء.
الأمراء الثلاثة
كان رأي النبي أن يؤمِّرَ على جيش المسلمين أشجعهم فأشجعهم فاختار ثلاثة أمراء فإن قتل الأول خلفه الثاني فالثالث، فاختار ثلاثة من الصحابة الأبطال هم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة (رضوان الله عليهم).
وقد اختلف المؤرِّخون في أمير الجيش الأول فروى أكثرهم أن الأمير الأول هو زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، وروى القليل منهم أن الأمير الأول هو جعفر ثم زيد ثم عبد الله فالاختلاف كما هو واضح في الأمير الأول بين جعفر وزيد ولا اختلاف هناك بينهم على أن الأمير الثالث هو عبد الله بن رواحة.
ولا نريد هنا استعراض أقوال المؤرخين في المصادر الكثيرة من كتب السير والتواريخ لأن الغالبية العظمى منها قد ساقتها الأهواء والأمزجة والميول المذهبية التي تغاضت عن كثير من الحقائق والأدلة والقرائن التي تثبت عكس ما قالوه.
وقد آثرنا أخذ الحقيقة من مظانها وعرضها بدلاً من الجري وراء الأقوال التي آثرت الاقتداء والتعبّد بأقوال (السلف الصالح) دون الرجوع إلى العقل والبحث والاستنتاج فجرى على تلك الأقوال من جاء بعدهم من المؤرخين والكتاب المحدثين وهم معصوبو الأعين وكأن الخروج عن أقوال السلف والبحث في الأمور التاريخية من الكبائر.
الحقيقة المخفية
إن قراءة أحداث هذه المعركة قراءة واعية محايدة تفرز كثيراً من الأدلة الواضحة تبرهن على أن الأمير الأول للجيش هو جعفر بن أبي طالب ثم زيد بن حارثة، والعجيب أن كل من جعل زيداً هو الأمير الأول من المؤرخين يذكر تلك الأدلة ثم يقول بخلافها وقد حجب تعصبّه الأعمى عن عينيه رؤية الحقيقة.
الدليل الأول: الذي يؤكد أن جعفراً هو الأمير الأول أن كل التواريخ والمصادر التي ذكرت معركة مؤتة قالت إن أول من استشهد من الأمراء هو جعفر ثم زيد ثم عبد الله، وهذا دليل واضح على أنه كان في مقدمة الجيش والأمير لا يكون إلا في المقدمة، فلا يمكن لجعفر إذا لم يكن أميراً أن يتقدّم لوحده ويخالف أميره ولا يمكن لزيد أن يتنصّل عن مسؤوليته كأمير وفي كلتا الحالتين مخالفة صريحة لأوامر النبي (ص) وحاشاهما من ذلك.
الدليل الثاني: إن جعفر بن أبي طالب كان القائد والأمير على المهاجرين إلى الحبشة بإجماع المؤرخين المتقدمين والمتأخرين، وكان عدد المهاجرين ثلاثة وثمانون من الصحابة الكبار، وإحدى عشر صحابية قرشية، وسبع صحابيات غير قرشيات، وكان من بين الصحابة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن مسعود، وعمرو بن سعيد بن العاص، وأخوه خالد، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، وعتبة بن غزوان، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد بن قصي، وسويبط بن سعد بن حرملة، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري .... وغيرهم.
وكثير من هؤلاء ليسوا بأقل من زيد في السابقة والفضل والإيمان إن لم يكن منهم من هو أفضل منه، ومع ذلك فقد أمَّر عليهم النبي (ص) جعفر وكتب إلى النجاشي: إني أرسلت إليك بابن عمي جعفر ونفر من المسلمين ... وفي ذلك تأكيد صريح على أن جعفر كان أفضل المهاجرين عند الله ورسوله فهو الذي تكلم مع النجاشي عن أصحابه وهذا دليل قاطع على أنه كان أيضاً قائداً وأميراً أولاً في مؤتة.
وإذا خطر سؤال يعترض على هذه المقارنة بأن أمير الحرب يختلف عن أمير الهجرة لجاء في مكانه ولكن عكس ما يتصور المعترض فمسؤولية الهجرة هي أكبر من مسؤولية الحرب وهي لا تحتاج إلى الشجاعة فقط، بل إلى الحنكة والتدبر والحزم والثبات والمعرفة خاصة أن المهاجرين لم يكونوا يعرفون إلى م سيؤول إليه مصيرهم وقريش تتبعهم للكيد بهم عند النجاشي فمسؤولية الهجرة أعظم وأخطر بكثير.
الدليل الثالث: جاء على لسان عدو المسلمين الذي أرسلته قريش للكيد بهم عند النجاشي وهو عمرو بن العاص الذي عزم على السفر إلى الحبشة لهذا الأمر فلما تهيأ للسفر قالت له ابنته: إلى أين يا أبه ؟ فقال لها من ضمن أبيات:
تقول ابنتي: أين هذا الرحيل؟ *** وما السيرُ مـــــــــــــنّي بمستنكرِ
فقلت دعيــــــــني فإني امرؤ *** أريـــــــــــــدُ النجـاشيَ في جعفرِ
ولن أنثني عن بــــــني هاشمٍ *** بما اسطعتُ في الغيبِ والمحضرِ
ودلّ تسميته لجعفر في قوله: (أريد النجاشي في جعفر) دون كل المهاجرين على أن لجعفر مكانة أعظم منهم فلا يمكن أن يؤمِّر النبي عليه أحد.
الدليل الرابع: يجمع على شجاعة جعفر وإمارته للجيش في حديث النبي لما استشهد الأمراء الثلاثة حيث قال (ص):
مثل لي جعفر وزيد وعبد الله في خيمة من در وكل واحد منهم على سرير فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدوداً ورأيت جعفراً مستقيماً ليس فيه صدود فسألت عنهم فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدّا بوجهيهما وإما جعفر فإنه لم يفعل.
فالذي لا يصد بوجهه عن الموت دون صاحبيه بصريح شهادة النبي لجدير أن ينصبه النبي أول أمراء الجيش.
الدليل الخامس: الحديث الذي رواه ابن سعد في طبقاته وغيره من المؤرخين وأصحاب السِّيَر: وهو أن رسول الله (ص) في صباح اليوم الذي دارت فيه معركة مؤتة صلى بالمسلمين الصبح ثم صعد المنبر فكشف له عن بصره فصار يرى المعركة ويحدث المسلمين بأخبارها أولا بأول فأخبرهم باستعداد جيش المسلمين وتهيئته لقتال العدو، ثم بدأ القتال وبينما هو يحدثهم إذ بدت عليه علائم الحزن وبعد قليل رأوه مبتسماً فسألوه عن سبب ذلك فقال (ص):
كان الذي رأيتم مني إنه أحزنني قتل أصحابي حتى رأيتهم في الجنة إخواناً على سُرَرٍ متقابلين ورأيت في بعضهم إعراضاً كأنه كره السيف ورأيت جعفراً ملكاً ذا جناحين مصبوغ القوادم.
وهذا دليل قاطع أيضاً على أن جعفراً كان أشجعهم في الحرب ولا يمكن أن يؤمِّر النبي (ص) على الشجاع من هو أدنى منه في الشجاعة.
ونحن هنا لا ننكر فضل زيد وعبد الله بن رواحة (رضوان الله عليهما) فقد كانا على قدر كبير من الشجاعة وأبليا جهاداً عظيماً وفعلا ما جَبُن عنه غيرهما فقد قادا الجيش بعد جعفر قيادة الشجعان الأبطال وقاتلا قتالاً شديداً رغم قلة عدد الجيش وخاضا غمرات الحرب ببسالة نادرة أبهرت عقول الروم.
ومن مواقفهما البطولية موقف الصحابي البطل عبد الله بن رواحة الذي قاد الجيش بعد استشهاد زيد فلما رأى المسلمون جيش الروم الجرار الذي يفوق عددهم بثلاثة وثلاثين مرة زاد من روعهم وهموا بالتراجع، ثم قالوا نكتب إلى رسول الله (ص) ونخبره الخبر فإما أن يردنا أو يزيدنا ؟
فقال لهم عبد الله بن رواحة: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ولا كثرة سلاح ولا كثرة خيل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به .. انطلقوا فقاتلوا فقد والله رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرسان إنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله ورسوله وليس لوعده خلف، وإما الشهادة.
وهذا القول لا يصدر إلا من بطل مستميت، ولم يبن الانكسار والتراجع على جيش المسلمين إلا عندما قتل أمراؤه الثلاثة فتراجع وتفرق في البيداء والعدو يطاردهم وهم لا يعرفون ماذا يصنعون إذ ليس لهم أمير يحمل اللواء ويقودهم حتى أخذه ثابت بن أقرم وصاح: يا للأنصار.. فجاء إليه عدد قليل من الأنصار وانضموا تحت اللواء، ولكن ثابتاً عندما رأى الجيش الجرار يكر عليه خاف وقال لخالد بن الوليد: خذ اللواء يا أبا سليمان .. ولكن أبا سليمان كان أشدّ خوفاً منه ورفض أن يأخذ اللواء !!
فقال خالد بن الوليد لثابت وهو يحاول أن يتملص من هذه المسؤولية التي لم يكن كفؤاً لها ويجعلها في غيره خوفاً من القتل: لا بل خذه أنت فلك سابقة وسن وقد شهدت بدراً !!
ولكن خالد لم يكن ليعترف لثابت ولغيره من الصحابة بالفضل عليه إلا في هكذا مواضع عندما تكون المسؤولية كبيرة فلم يقل ذلك لأبي بكر عندما ولاه على جيش لقتال مالك بن نويرة فاستأمنه وغدر به وقتله مع قومه !!
وبقي اللواء بيد ترتعش خوفاً بعد أن فقد الأيادي الشجاعة الأمينة عليه وكل واحد يحاول دفعه إلى صاحبه ليتجنب الموت فقال ثابت لخالد: خذ يا رجل فو الله ما أخذته إلا لك، فأخذ خالد اللواء ولما هجم عليه جيش الروم فر أمامه وتبعه جيش المسلمين !!
وكانت هناك محاولة من قطبة بن عامر في المضي على ما مضى عليه الأمراء الثلاثة والقتال حتى الشهادة فكان يصيح بالمسلمين: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً ولكنه لم يجد من يستمع إليه..
ويذكر الواقدي وابن عساكر ذلك بما نصه: إنه لما أخذ خالد اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة، وقتل المسلمون واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً، يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، ويتبعون صاحب الراية منهزماً.
ورجع الجيش إلى المدينة مكسوراً يجرُّ أذيال الخيبة والخذلان بعد أن استشهد أبطاله في ساحة الجهاد فلم يلق جيش من العتاب كما لقيَ الذين رجعوا من جيش مؤتة حتى أن الرجل منهم ليأتي إلى بيته يطرق على أهله الباب فلا يفتحوه له، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فُرَّار ، فررتم من الجهاد في سبيل الله ! فاستتر الكبراء من الصحابة في بيوتهم فلم يخرجوا مدة خوفاً من توبيخ المسلمين ! حتى رفع عنهم النبي (ص) غضب المسلمين وقال إنهم كرارون إن شاء الله، فتجرؤوا على الخروج !
الدليل السادس: على إمارة جعفر للجيش الحديث الذي دار بين عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والذي روته كثير من المصادر المعتبرة وهو حديث طويل تفاخرا فيه نقتطع منه ما يفي بالموضوع حيث قال عبد الله لمعاوية:
أما علمت أن رسول الله (ص) حين بعث جيشاً إلى مؤتة أمّرَ عليهم جعفر بن أبي طالب ثم قال (ص) فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد الله بن رواحة ...
فأيِّ الناس أعلم بتلك الفترة من أصحابها و(صاحب البيت أدرى بالذي فيه) ؟؟ فإذا كان عبد الله بن جعفر كاذباً وحاشاه من ذلك لردّ عليه معاوية، بل لاتخذه ذريعة لكي يظهر كذبه عن طريق الصحابة الذين لا يزال كثير منهم على قيد الحياة بل وأبنائهم الذين يعلمون من هو أمير مؤتة جيداً، ومعاوية كان يتحيّن الفرص لكي ينتقص من بني هاشم لكنه سكت وألقِمَ حجراً لأنه يعرف وكل المسلمين إن كلام عبد الله بن جعفر كان صحيحاً لا غبار عليه.
ومثل هذا الحديث جرى أيضاً بين الإمام الحسن بن علي (ع) ومعاوية بنفس المضمون، كما ورد في روايات أئمة أهل البيت (ع) في المصادر المعتبرة هذا القول عنهم (ع)
الدليل السابع: مجموعة كبيرة من الأشعار تعود إلى تلك الفترة ذكرتها المصادر لمجموعة كبيرة من الصحابة ممن رثوا جعفر وأشادوا بشجاعته مع الأميرين بعده زيد وعبد الله، وهذه الأشعار هي أقوى الأدلة التي تثبت بما لا يقبل الشك على إمارة جعفر، حيث صورت تلك المرحلة التاريخية من خلال معاصريها.
يقول حسان بن ثابت وهو يرثي جعفراً وزيداً وعبد الله في قصيدة طويلة مطلعها:
تأوَّبـــــــــني ليلٌ بيثربَ أعسرُ *** وهمٌّ إذا ما نـوِّمَ الناسُ مُسهِرُ
لذكرى حبيبٍ هيّجتْ ليَ عبرةً *** سفوحاً وأسبـابُ البكاءِ التذكرُ
بلى إن فقـــــــدانَ الحبيبِ بليةٌ *** وكم من كريمٍ يُبتلى ثم يصبرُ
ثم يصل إلى رثاء أمراء مؤتة الشهداء فيقول:
فلا يبعــــــدنَّ اللهُ قتلى (تتابعوا) *** بمؤتة منهم ذو الجـناحينِ جعفرُ
وزيدٌ وعبــــدُ الله حين (تتابعوا) *** جميـــــعاً وأسيـافُ المنيَّةِ تقطرُ
رأيتُ خـيــارَ المؤمنين تواردوا *** شعوباً وخــــــــلقٌ بعدهم يتأخرُ
غداةَ غـدوا بالمؤمنين (يقودُهم) *** إلى الموتِ ميمونُ النقيبةِ أزهرُ
أغرُّ كضـوءِ البدرِ من آلِ هاشمٍ *** أبيٌّ إذا سِيمَ الظـــــلامة أصعرُ
فطـــاعــــــنَ حتى مالَ غير موسَّدٍ *** بمعتـــــــــــــــركٍ فيه القنا مُتكسِّرُ
فصـــــــــارَ مع المستشهدين ثوابُه *** جنانٌ ومـلتفُّ الحدائقِ أخـــــــضرُ
وكنّا نـــرى في (جعفرٍ) من محمدٍ *** وقاراً وأمراً حازماً حـــــــين يأمرُ
و ما زالَ في الإسلامِ من آلِ هاشمٍ *** دعائمُ صـــدقٍ لا تــــــرامَ ومفخرُ
هُمُ جبلُ الإســـــلامِ والناسُ حولهم *** رضامٌ إلى طــــــورٍ يطولُ ويقهرُ
بهاليلُ منهم جــــــــــعفرٌ وابنُ أمِّه *** عليٌّ ومنــــــــــــهـم أحمدُ المتخيَّر
و حمزةُ والعبـــــــاسُ منهم ومنهمُ *** عقيلٌ وماءُ العودِ من حيث يُعصَرُ
بهمْ تفرجُ الغمّـــــَاء من كلِّ مأزقٍ *** عماسٍ إذا ما ضاقَ بالناسِ مصدرُ
هُمُ أولياءُ اللهِ أنـــــــــــــزلَ حكمه *** عليهمْ وفيهمْ والكتـــــــابُ المطهّرُ
والقرائن هنا واضحة وضوح الشمس في المفردات التي وضعناها بين قوسين والتي تؤكد قيادة جعفر وهي: (تتابعوا)، و(يقودُهم)، و(وكنّا نرى في (جعفرٍ) من محمدٍ وقاراً وأمراً حازماً حين يأمرُ)، أي إن أمرة جعفر كانت تشبه إمرة رسول الله في الوقار والأمر الحازم، و(هُمُ جبلُ الإسلامِ والناسُ حولهم رضامٌ إلى طورٍ يطولُ ويقهرُ)، هنا يشبه بني هاشم بالجبل وبقية الناس بالضرام وهي الحجارة فهل كان النبي يخطئ وحاشاه من ذلك بأن يؤمِّر على جعفر من هو دونه في الكفاءة ؟
ويفرد حسان قصيدة لرثاء جعفر وحده لما له من المنزلة فيقول:
ولقد بكيــــــــتُ وعَزَّ مهلكُ جعفرٍ *** حبّ النبيِّ على البريــــةِ كلها
ولقد جزعتُ وقلتُ حين نُعيتَ لي *** من للجلادِ لدى العقابِ وظلـها
بالبيضِ حين تُسلُّ من أغمــــادِها *** ضرباً وأنهـــــالُ الرماحِ وعلها
بعدَ ابنِ فاطمة المبارك جعـــــــفر *** خير البرية كــــــــــلها وأجلها
رزءاً وأكــــــرمها جميعاً محتداً *** وأعزّهــــــــــــا متظلماً وأذلها
للحقِّ حينَ ينوبُ غيــــــر تنحلٍ *** كذباً وأنــــــــــــداها يداً وأقلها
فحشــــاً وأكثرها إذا ما يجتدي *** فضلاً وأنــــــــــداها يداً وأبلها
بالعُرفِ غير محمـــــدٍ لا مثله *** حي من أحيـــــــاء البرية كلها
وتدل كلمة (ثم) في القصيدة التي يرثي بها زيدا وعبد الله على أنهما كانا الأميرين بعده حيث يقول في رثائهما:
عينُ جــــودي بدمعكِ المنزورِ *** واذكري في الرخاءِ أهلَ القبورِ
واذكـــري مؤتةً ومـا كان فيها *** يوم راحوا في وقعــــــةِ التغويرِ
حين راحوا وغادروا (ثم) زيداً *** نِعمَ مـأوى الضريكِ والمأسورِ
حبُّ خيرِ الأنامِ طرَّاً جـــــميعاً *** سيدُ النــــاسِ حبُّه في الصدورِ
ذاكمُ أحمـــــــــدُ الذي لا سواه *** ذاكَ حُزني له معــاً وسروري
إنَّ زيــــــــداً قد كان منّا بأمرٍ *** ليس أمـــــرَ المُكذبِ المغرورِ
ثم جودي للخـــزرجـي بدمعٍ *** سيداً كــــان ثم غيـر نزورِ
قد أتـــــانا من قتلهم ما كفانا *** فبحزنٍ نبيتُ غير ســرورِ
وقال حسان بن ثابت يرثي جعفرا:
ونرى قيادة جعفر للجيش واضحة كل الوضوح أيضاً في قصيدة الشاعر المشهور والصحابي كعب بن زهير الذي يقول في رثاء جعفر مع أصحابه:
نام العـــــيونُ ودمعُ عينكَ يهملُ *** سحّاً كما وكفَ الربـــابُ المُسبلُ
وكــــــأنّما بين الجوانحـِ والحشا *** مما تأوَّبني شهــــــــــابٌ مدخلُ
ثم يعدِّد أمراء المعركة حسب أسبقيتهم:
وجداً على النفـرِ الذين (تتابعوا) *** صرعى بمؤتةَ غُودروا لــــــم ينقلوا
صلى الإله عـليــــــــهمُ من فتيةٍ *** وسقى عظـــامهمُ الغمـــــــامُ المُسبلُ
صبروا بمـــــــؤتة للإلهِ نفوسهم *** حذراً له وحفيــــــــــــــظة أن ينكلوا
ساروا أمــــــــامَ المؤمنين كأنّهم *** طودٌ (يقــودهمُ الهزبـــــــرُ المشبلُ)
إذ يهتـــــــــدونَ (بجعفر) ولوائه *** (قدّامَ أوَّلِـــــــــــــــــهم ونعمَ الأوَّلِ)
(حتى تفرَّقتِ الصفوفُ وجــعفرٌ *** بين الصــفوفِ لدى الحتوفِ مُجَدَّلُ)
فتغيَّرَ القمـــــــــرُ المنيــرُ لقدرِه *** والشمس قـد كـسفتْ وكـــــادتْ تأفلُ
قرمٌ علا بنيـــــــــــانُه من هاشمٍ *** فرعٌ أشمُّ وســــــــــــــــــــؤددٌ متأثّلُ
قومٌ بهم عصـــــــــمَ الإلهُ عبادَه *** وعليهمُ نـزلَ الكـتـــــــــــابُ المُنزلُ
فضلوا المعـــــاشرَ عفّةً وتكرُّماً *** وتعمَّــــــــــــدتْ أخلاقُهم من يجهلُ
بيضُ الوجوهِ ترى بطونَ أكفِّهم *** تندى إذا اعتـــــــذرَ الزمانُ المُمحلُ
ويهديهمْ رضـــــــي الإلهُ لخلقِه *** وبحدِّهم نُصـــــــــــرُ النبيُّ المرسلُ
وهذا المدح لبني هاشم وبيان فضائلهم إضافة إلى الإشارات الواضحة التي وضعناها بين قوسين يؤكد على أن جعفر كان أفضل من الأميرين الآخرين وهو الأمير الأول.
وتذكر المصادر شاعراً آخر كان حاضراً مع المسلمين في مؤتة لم تسمِّه، فلما رجع مع الجيش قال وهو نادم على فراره وقد ترك أمراء الجيش شهداء (بالتتابع) على ثرى مؤتة:
كفى حزناً أني رجــعتُ (وجعفرٌ *** وزيدٌ وعبــــــداللهِ) في رمسِ أقبرِ
قضوا نحبَهم لما مضوا لسبيلهم *** وخلفــــــــــت للبلوى مع المتغيرِ
ثلاثــــــــة رهط قدموا فتقدموا *** إلى وردِ مكروهٍ من الموتِ أحمرِ
فحالة الحزن والندم لم تفارق الذين فروا وندموا على فرارهم أشد الندم لكن اللوم الأكبر يقع في فرارهم على من حمل الراية وفر بها، فهذا صحابي شاعر آخر هو قيس بن المسحر اليعمري يقرع سن الندم والحزن لأنه تأسى بخالد وكان يتمنى لو أنه كان مع جعفر فيتذكر ذلك اليوم الذي شاهد فيه جعفر وهو يسطر أروع ملحمة في الجهاد في سبيل الله حتى يروي أرض المعركة بدمه الطاهر فيقول:
فوالله لا تنفكُّ نفـــسي تلـــومني *** على موقفي والخيـلُ قابعة قبلُ
وقفتُ بها لا مستـجيــــراً فنافذاً *** ولا مانعاً من كــان حمَّ له القتلُ
على أنني آسيـــــــــتُ نفسي بخالدٍ *** ألا خالدٌ في القومِ ليسَ له مثلُ
وجاشت إليَّ النفسُ من نحوِ جعفرٍ *** بمؤتة إذ لا ينفـــع النابلَ النبلُ
وضمَّ إلينا حجزتيــــــــــهم كليهما *** مهاجرة لا مشركون ولا عزلُ
ويظهر من هذه الأبيات أن قيس تأسى بخالد في فراره من المعركة، ولكن نفسه جاشت إلى مقتل جعفر ولكنه لا يستطيع فعله في الحرب ولا يمتلك شجاعته فبقيت حسرة في نفسه.
فهذه الأدلة القاطعة على إمارة جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة تشير أيضاً إلى البسالة الفائقة التي أبداها في تلك المعركة حيث يروي التاريخ لنا أن جعفرا قاتل قتالا لا نظير له فقطعت يمينه ثم شماله وتكاثر عليه الروم فقتلوه ونترك وصف قتاله لابن هشام حيث يقول:
حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون.... والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقتــــرابُها *** طيبة وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إذ لاقيتهـــــــا ضرابهــــــــا
وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.
ثم تقدم زيد بعد جعفر أميرال فقاتل حتى استشهد وروى ابن إسحاق إن ابن رواحة لما أخذ الراية جعل يتردد بعض التردد و يستقدم نفسه يستنزلها وقال:
أقســــــمتُ يا نفسُ لتنزلنّه *** طوعـــاً و إلا سوف تكرهنه
ما لي أراكِ تكرهينَ الجنة *** إذ أجلبَ الناسُ و شدّوا الرّنه
قد طالمــا قد كنتِ مطمئنه *** هل أنــــتِ إلا نطفة في شنه
ثم ارتجز أيضاً فقال:
يا نفـــــسُ إلا تقتلي تموتي *** هذا حمــامُ الموتِ قد صليتِ
و ما تمنيتِ فقد أعطـــــيتِ *** إن تفعلي فعلهـــــــــما هديتِ
وإن تأخَّـــــرتِ فقد شقيت
ثم نزل عن فرسه فقاتل فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم فقال اشدد بهذا صلبك فأخذها من يده فانتهش منها نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية من الناس فقال وأنت يا ابن رواحة في الدنيا ثم ألقاها من يده و أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.
كما لا ننس الشهداء الأبطال الذين استشهدوا في هذه المعركة فقد ذكرت المصادر من استشهد فيها وهم إضافة إلى جعفر وزيد وعبد الله الأمراء الثلاثة: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة، وعباد بن قيس، والحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء، وأبو كليب وجابر ، ابنا عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول، وعمرو وعامر ، ابنا سعد بن الحارث بن عباد، وأبو كلاب وجابر ، ابنا عمرو رضوان الله عليهم
محمد طاهر الصفار